رحلتي مع الاكتئاب
بعد رحلة علاجي من الاكتئاب شعرت كأنني كنت أرى الحياة من خلال شاشة تلفاز أبيض وأسود، ثم صرتُ أراها من خلال شاشة ملونة، كأن الدنيا كانت مظلمة وأضاءت، مررتُ بظروف صعبة، تلاها دخولي في حالة نفسية سيئة، شُخصت حينها بأكتئاب، مَن تعرَّف عليَّ في تلك الفترة فلن يتذكر أكثر من أنني نكدية، لا تسأل، مغلقة على نفسها، لا تخرج، ولا تتصل بأحد، ولا تردّ على الهاتف.
أنا (ف.ج) أبلغ من العمر 30 عامًا ،أعيش في منطقة صبر الموادم التابعة لمحافظة تعز، بدأت معاناتي بعد إنهائي لتعليمي الجامعي ومكوثي في المنزل، وحالي مع عائلتي كحال أغلب مناطق الريف التي ينتشر الزواج المبكر فيها بكثرة، ويعتبر التعليم من الكماليات، وأن للفتاة سن معين للزواج إذا فاتها انتهت صلاحيتها.
مرت الأيام وكبرت وتجاوزت العقد الثاني من عمري ووقفت على أعتاب الثلاثين دون زواج، وكبرت مع هذه السنين معاناتي مع عائلتي بسبب تأخر زواجي رغم أني فتاة على قدر عال من الجمال، وهو ما أثار علي سخط عائلتي والمحيطين بي وكأني المذنبة، تأخر زواجي جعلني عُرضة دائمة للتنمر والتجريح مما سبب لي حرج كبير، ففي كل زيارة أو مناسبة إجتماعية أحضرها أصبح عرضة للتندر وتطاردني الكثير من العبارات الشامتة مع مواساة طفيفة من البعض.
وبسبب الفراغ وأيامي المتشابهة في المنزل بدأت أشعر بثقل سنوات عمري وطول أيامي، وأصبحت أرقب مرآتي متخيلةً أن التجاعيد بدأت تغزو وجهي وأن جمالي قد تبدد.
ومع إشتداد الضغوطات الإجتماعية من حولي بدأت أعاني من المخاوف والأفكار المتصارعة ؛ مما جعلني أعاني من إضطراب في النوم مع صداع مستمر، لتحدث أول نوبة تشنجية لم أعيها ألا بعد استعادتي للوعي وتحدث الذين كانوا معي عما حدث، وبعد تكرار النوبات لأكثر من مرة لجأت أسرتي لطبيب مختص، الذي أكد بعد عمل الأجهزة والفحص إصابتي بخلل في كهرباء المخ .
ومع مرضي بهذا الخلل العصبي زادت معاناتي واشتدت همومي، فمن هو الذي سيرغب بفتاة في الثلاثينات من عمرها وتعاني من مرض عصبي.
لتتزاحم الأفكار والهواجس في مخيلتي، وما هي إلا فترة زمنية بسيطة حتى بدأت أعاني من مظاهر الاكتئاب المتمثلة بالحزن والإحباط وفقدان المتعة بالحياة، وأصبحت عصبية في تعاملي مع من حولي، وأميل للعزلة؛ فابتعدت عن حضور المناسبات الإجتماعية وأهملت مظهري، واستمرت معاناتي ما يقارب العامين، وخلال مراجعتي الدورية لطبيب المخ والأعصاب لاحظ معاناتي وإضطرابي النفسي، وأوضح لي ضرورة معالجة هذا الإضطراب في مركز مختص ، وأوصاني بالذهاب لمركز الدعم النفسي التابع لمؤسسة الرعاية النفسية التنموية ، وبالرغم من حرج عائلتي في مواجهة الأعتراف بأني أعاني من إضطراب نفسي إلا أنهم استجابوا وأخذوني إلى المركز بعد ملاحظتهم لحجم معاناتي وتفاقمها .
وهناك وبعد إستكمال إجراءات الإستقبال والتسجيل ودراسة الحالة، تم عرضي على الطبيب المعالج من أجل تشخيص حالتي وتقرير العلاج المناسب، ليتم بعدها وضع خطة علاجية متكاملة، تضمنت الجانب الدوائي بالإضافة للجلسات العلاجية والتأهيلية من أجل استعادة بناء قدراتي الشخصية.
بعدها انتظمت بحضور الجلسات النفسية و التي كانت لي خير متنفس للبوح عن مواطن ألمي ومعاناتي دون تحرج أو خوف من التنمر ،حيث حضيت بتفهم الأخصائية النفسية المتابعة لحالتي مما جعلني استعيد ثقتي بنفسي وبمن حولي ، خضعت لبرنامج علاجي تأهيلي حيث تم تدريبي على كيفية اكتساب مهارة التكيف، ومهارة صرف الأنتباه وتمارين الاسترخاء العضلي والتنفسي ، بالإضافة إلى ذلك تم توعيتي بأهمية الشعور بالإنجاز لرفع القيمة الذاتية وتقدير الذات من خلال ملء وقت الفراغ بممارسة الأنشطة والهوايات المُحببة، ومهارة الاعتناء بالذات، وتم نصحي بضرورة التقديم بأعمال تتناسب مع تخصصي الجامعي .
وبعد أربعة أشهر من حضور الجلسات النفسية والمتابعة الدورية في المركز، تحسنت حالتي وهو ماجعل الطبيب النفسي يسحب علاج الإكتئاب ، حيث تلاشت كل أعراض الإكتئاب التي كانت تثقل كاهلي وتملأني بالضيق والسلبية ، وعادت لي ابتسامتي وأصبحت أكثر إيجابية وانفتاحاً على الحياة، وصرت أحضر المناسبات دون خجل وأهتم بمظهري ، وشرعت في تأهيل نفسي بدورات تدريبية في مجال تخصصي من أجل أن أحظى بفرص أكبر في الحصول على عمل.
واستكمالاً للخطة العلاجية الشاملة عقدت الأخصائية النفسية لقاءات توعوية مع عائلتي التي كانت مصدر معاناتي بسبب رؤيتها الضيقة والتقليدية لوضعي .
وبعد فترة من التقديم هنا وهناك تم قبولي للعمل في مؤسسة قريبة من مكان سكني ، وهو ما جعلني أهتم أكثر في تخصصي وأعمل على تطوير قدراتي.
ومع مرور الأيام تكونت لدي قناعاتٍ جديدة ورائعة، وأصبح مبدأي "الزوج وجوده جميل، وغيابه لن يضر"، وأشعر الآن أني خفيفة الروح كفراشة تزهو بألوان الحياة وتحلق بسعادة وحرية، وأصبح كل من يراني يُطري على نظارة مظهري وبشاشة مُحيايَّ .
وفي الختام لابد لي أن أشكر مركز الدعم النفسي والعاملين فيه، و صندوق الأمم المتحدة للسكان ،على هذه الخدمات الكبيرة التي يقدمونها، وأتمنى استمرارية هذا المشروع نظراً لحاجة الناس له في ظل وضع البلد المزري.
بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان نفذت مؤسسة الرعاية النفسية التنموية مشروع مراكز الدعم النفسي، والذي يقدم خدمات الدعم النفسي المتخصصة والمرتكزة غير المتخصصة للناجين من العنف القائم على النوع الاجتماعي والنساء والفتيات المعرضات لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي .